الأستاذ
الدكتور/ إبراهيم عبد الباقي أبو عيانة
أستاذ
ميكروبيولوجيا الأغذية
أول
غذاء يتذوقه الإنسان، ويجري في جهازه الهضمي وتمتصه أمعاءه، ينفرد وقتذاك ببناء
الخلايا، وتشييد العظام، وشد العضلات، وتشكيل المخ، ونسج القدرة على التفكير
والفهم والمعرفة. يُنصح بتناوله في الصغر والكبر، والصحة والمرض، صباحًا ومساءًا،
حليبًا أو مُصنعًا، طازجًا أو مُخمرًا.
عرف
الإنسان اللبن كأول غذاء تمنحه الأم لوليدها، ومع استئناسه للحيوان الحلوب، تناوله
كأول غذاء حيواني لا يحتاج لإعداد أو طهي، فلما كَثُر عن حاجته، لاحظ تخمره
وتَغَيرت صفاته طعمًا وشكلًا، فقام بتصنيعه بهذه الطريقة، قاصدًا إطالة مدة صلاحيته
والاستفادة من طعمه الحسن، وليس لفوائده الصحية، فقد كان يجهلها، أو لا تهمه. فكان
أول غذاء صَنّعه الإنسان. توالت وتباينت أنواع اللبن المُخمر حسب مكان نشأته
وطريقة تصنيعه والميكروبات النافعة المُستخدمة في تصنيعه، فنشأ الرايب والزبادي في
مصر والسودان واليمن والداهي في الهند والخاثر واللبن في العراق وبلاد الشام
واليوغورت في تركيا والكفير في شرق أوروبا....
يُعد
أمير الأطباء، أبو علي بن سينا (980- 1037م) أول من أثار الانتباه لفوائد اللبن
المُخمر الغذائية والصحية في كتابه (القانون) وظلت أفكاره تدرس في أعرق جامعات
فرنسا (لوفان ومونبيليه) حتى عام 1650م، تلته دراسات العالم الفرنسي "Louis Pasteur" الذي أثبت وجود كائنات مجهريه مستقيمة منتجة
لحمض اللاكتيك في اللبن المختمر حتى تمكن العالِم البريطاني Sir Joseph Lister في عام 1878م من عزل البكتيريا المنتجة للحموضة في اللبن. لكن يُعد الروسي "ايليا متشينكوف"
الحاصل على "جائزة نوبل" وصاحب نظرية "إطالة الحياة" الذي حلم
بتوطين بكتيريا اليوغورت (الزبادي) في أمعاء الإنسان معتقداً أنها ستوفر بالأمعاء
وسطاً حمضيًا يحد من تَشًكُّل وامتصاص السموم الناشئة عن هضم وتمثيل البروتينات.
غذاء
آمن:
الكائنات الحية الدقيقة "خاصة بكتيريا حامض
اللاكتيك" تُعتبر حجر الزاوية في
صناعة الألبان المختمرة، فهذه الكائنات شديدة الحساسية تعطى مؤشرًا صادقًا عن أمان
الحليب المُصنع لبنًا مُختمرًا، فنموها فيه يؤشر علي خلو الحليب من المبيدات،
والمعادن الثقيلة، أوعلي الأقل وجودها في الحدود الآمنة (حيث أن المبيدات شديدة
السمية ووجودها يبيد بكتيريا حامض اللاكتيك) ، كذلك البكتيريا الممرضة يتم القضاء
عليها بالبسترة – معاملة الحليب حراريًا- حتى إن وجدت فنشاط بكتيريا حامض اللاكتيك
كفيل بالقضاء عليها، بما تنتجه من أحماض عضوية وفوق أكسيد الهيدروجين أو بشبيهات المضادات
الحيوية التي تنتجها بكتريا اللاكتيك المعروفة بـ Bacteriocins . من الصعب إضافة مواد حافظة عند تصنيع اللبن المخمر، فهي تعيق نمو
ونشاط البكتريا المسئولة عن تخمر الحليب وتحوله إلى لبن مختمر، وبالتالي فإن اللبن
المختمر يضمن لك غداءًا آمنًا يخلو من الملوثات الكيميائية والميكروبية.
غذاء
سهل الهضم غني بالمغذيات:
اللبن
المُختمر يحمل نفس التركيب الكيميائي العام للحليب، حيثُ يتكون من بروتين اللبن
ودهن اللبن واللاكتوز (سكر اللبن) ومجموعة الفيتامينات والأملاح المعدنية وبعض
الإنزيمات والهرمونات، ولكن يختلف عنه في تأثير بكتيريا التخمر على هذه المكونات،
فتصبح أكثر هضمًا وأعظم إتاحة للامتصاص والاستفادة منها.
تقوم
بكتيريا اللاكتيك خلال نموها بإنتاج مجموعة من الإنزيمات المحللة كي تحصل علي
الطاقة اللازمة لنموها ونشاطها وتكاثرها، منها إنزيمLactase " "
الذي يُحلل سكر اللبن إلي سكري (جلوكوز وجالاكتوز) وينتج بذلك حامض اللاكتيك، الذي
يزيد من امتصاص الأملاح المعدنية مثل الكالسيوم والفسفور والبوتاسيوم والسيلينيوم والماغنسيوم
والحديد والنحاس...، مما يوفر درعًا واقيًا من عدة أمراض. علاوة على أن الأحماض
العضوية الناشئة تحد من نمو ونشاط بكتيريا التعفن والبكتيريا الممرضة. كما تقلل الحموضة من تأثير الفيتات الحد من امتصاص الكالسيوم.
كما
تنتج إنزيم البروتيز والببتيديز، هذه الإنزيمات تُحلل بروتينات اللبن فتحلل
الكيزين إلي شقوقه ( بيتا والفا وكابا وجاما كازين)، أما بروتينات مصل الحليب
فينتج عنها: بيتالاكتوجلوبيولين، والفالاكتوجلوبيولين، ولاكتوفيرين، والجلوبيونات
المناعية وعوامل النمو، وكل هذه الببتيدات عالية الجودة بل متخصصة ولها صفات نوعية
ونشاطات بيولوجية فريدة فهي مضادة للفطريات ومضادة للأورام السرطانية ومضادة
للميكروبات الضارة ومضادة لتفاعلات الأكسدة، علاوة على أهميتها الغذائية وما ينتج
من أحماض أمينيه تمتص مباشرة في القناة الهضمية. كما تُنتج أيضًا الببتيدات
الأوليجية النشطة مثل "الكازومورفين" ومثيلاتها وهذه الـOligopeptides لها خصائص المسكنات وتحفز إنتاج
المورفين والأنسولين والسوماتوستاتين في
الجسم، وتعمل علي تعديل ونقل وإطالة امتصاص الأحماض الامينية
كما ينتج من
عملية التحلل "إنزيم أنجيوتنسين المُحول" الذي له دور مهم في خفض ضغط الدم المرتفع، بل ويعتبر إستراتيجية
غير دوائية لخفض ضغط الدم المُرتفع.
علاج حساسية
اللاكتوز:
يعاني
بعض الناس من حساسية اللاكتوز، حيث يتراكم سكر اللبن داخل الأمعاء نتيجة صعوبة
هضمه (بسبب غياب الإنزيم المحلل له Lactase..)، مما يسبب سحب كميات من الماء في القولون
مسببًا إسهال، كما تقوم بكتريا التعفن المستوطنة في الأمعاء بتخمير اللاكتوز وتنتج
كميات كبيرة من الغاز مُسببة تقلصات، فيعاني الشخص من مغص وإسهال وعدم راحة
بالبطن. تزول هذه الأعراض بتناول هؤلاء الأشخاص الألبان المختمرة ومداومتهم عليه،
حيث أن بكتيريا اللبن المختمر تمتلك نظامًا إنزيميًا يحلل اللاكتوز ويُعظم
الاستفادة منه ويزيل الأعراض السابقة.
مقاومة بكتيريا
التعفن والممرضة:
تقوم
البكتيريا المستخدمة في إنتاج الألبان المختمرة باحتلال أماكن استعمار بكتريا
التعفن وتعيد التوازن للتركيب الميكروبي للأمعاء، كما تبيد البكتيريا الممرضة التي
قد تدخل إلي القناة الهضمية أو تقاومها وتثبط نشاطها وتحد من تكاثرها، عن طريق عدة
استراتيجيات، أولها الحموضة التي تنتجها فتخلق وسطًا غير ملائم لنمو وتكاثر
البكتريا الممرضة، كذلك تنتج فوق أكسيد الهيدروجين القاتل لهذه البكتيريا غير
المرغوبة، كما تنتج جزيئات بروتينية تسمى "بكتريوسينات" ذات تأثير شبيه
بتأثير المضادات الحيوية.
علاج الإسهال
والإمساك:
عادةً
ما يحدث الإسهال إما بسبب تلوث بكتيري، أو كأثر جانبي لتناول المضادات الحيوية، أو
بعد السفر للخارج، وُجد أن تناول الألبان المختمرة تحد من الإسهال بجميع أنواعه،
بسبب أثرها المضاد للميكروبات المُلوثِة، وإعادة التوازن لميكروفلورا القناة
الهضمية الذي يُحدثُه المضاد الحيوي، وكذلك يحد من إسهال المسافرين، وإسهال
الأطفال والبالغين.
تمتلك البكتيريا
المُخمرة، وكذلك بكتيريا probiotic
النافعة نُظمًا إنزيمية لتمثيل وهضم الألياف
الغذائية والسكريات العديدة، منتجة أحماض دهنية قصيرة السلسلة تعمل علي تحسين حركة
الأمعاء، مما يحد من الإمساك وما يترتب عليه من أمراض مثل القولون التقرحي، وداء
القولون الرتجي، وسرطان القولون.
تحسين كفاءة
الجهاز المناعة:
يتم
هذا من خلال عدة محاور، حيث للبكتيريا المُخمرة القدرة علي إنتاج حزمة من
الفيتامينات مثل فيتامين A,
B1, B2, B3, B5, B6, B12, D, K بالإضافة
إلي Folic acid، هذه الفيتامينات تدعم وتحسن كفاءة الجهاز
المناعي، وتقي من العديد من الأمراض، كما تُحسن امتصاص الكالسيوم والزنك
والبوتاسيوم والفسفور والمنجنيز، التي لها دور مساعد في تحسين كفاءة مناعة الجسم،
كما يحدث هذا التحسن نتيجة لإعادة توازن ميكروبات القولون، كما وُجد أن التناول
المستمر للألبان المخمرة عمل علي زيادة الخلايا الإلتهامية وخلايا T المناعية، كما أن زيادة الامتصاص للأحماض
الأمينية والدهنية لها دور هام في دعم تحسين المناعة.
مقاومة الأورام
السرطانية:
هذا
التأثير مُرتبط باستجابة التعديل الوراثي وتعديل ميكروفلورا الأمعاء ومنع نمو
ونشاط الميكروبات المنتجة للسموم المُسرطنة وكذلك منع امتصاص المواد السامة
والشوارد الحرة، ومنع الاستجابة الإلتهابية من خلال إفراز IL-10 ووقف الخلايا المبرمج وخفض الإنزيمات
المُسرطنة. كما أن للألبان المتخمرة القدرة علي ايقاف التفاعلات الوسيطة لإنتاج
السيتوكينات Cytokines العامل الأساسي في حدوث الإلتهابات والتي ربما ينتهي بها
الامر الي حدوث أورام.
الوقاية
من بعض المشاكل الصحية الأخرى:
للألبان المختمرة دور لا يستهان به في
علاج هشاشة العظام، ومرضي السكر وكذلك في المساعدة في علاج حالات التسمم
بالكيماويات، ولا ننسي استخداماته في مستحضرات التجميل وعلاج جرثومة المعدة
والمطثية العسيرة، وهي بكتيريا متجرثمة Clostridium difficile والتي تتسبب في عدوى الأمعاء الغليظة
(القولون). تتراوح الأعراض من الإصابة بإسهال إلى حدوث ضرر بالقولون يهدد الحياة. وتخفيف
العدوي في القناة البولية التناسلية.
في الختام احرص عزيزي القارئ علي تناول الألبان المختمرة، فهي تحمل لك من
النفع الكثير، تناولها على أي صورة وأي مُسمى زبادي، داهي، رايب، كفير، كشك، لبن،
يوغورت، روب، خاثر، كيومس، مقلب او متخثر، مُنكه أو ساده، تناوله في الصحة والمرض،
تناوله صباحاً ومساءًا، عَوّد أطفالك عليه، قدمه تحيه لضيوفك، اصنعيه في بيتك أو
اشتريه من المتجر، تناولوه كما هو أو محلى بالعسل فكل الألبان المُختمرة أيا كانت
تؤدي إلى الصحة.